(1)
لم أتعرّف على شعر بدر شاكر السياب إلا من باب التدرّب، كنت فتى في الخامسة عشر من عمره يحاول أن يكون ممثلاً مسرحيّاً، ولم يختر مدرّبي على الإلقاء –آنذاك- سوى قصيدة "المومس العمياء" لما تحمله من صعود درامي، وكلمات "أصيلة" بإمكانها مساعدتي على نُطق الأحرف بشكلها الصحيح والرصين، وكنت حينها اقرأ القصيدة وألهج كلماتها من دون فهم شيء، فراح المدرّب يشرح لي ما تحمله من دراما، ولم يبالغ وقتها حين أخبرني بأن هذه القصيدة لا تقلّ أهميّة عن أي نص لشكسبير لما فيها من "هياج" درامي، وجمل فخمة:
عمياء كالخفاش في وضح النهار، هي المدينة،
والليل زاد لها عماها.
لم أستطع حفظ قصائد السياب، رغم موسيقاها العاليّة، لكني أخذت التقرّب منه أكثر، ذاك الفتى النحيل، المهووس بالمدينة والحبّ، عبر قراءة قصائده، وكنت في الحين ذاته، استمع إلى أسطورة حياته، تنقّله من الريف إلى المدينة، مرضه، وقصص حبّه الفاشلة، وقفزه السياسي، وبعض نفاقه الاجتماعي.
(2)
أميل إلى الاعتقاد أن السياب كان من أوّل شعراء الحداثة العراقيين، الذي تخلّى عن "أناه" المتضخّمة، وامتدح تلك "المنكسرة" وتصالح مع "العدميّة" التي كانت تحطّ رحالها في العراق القلق الخارج من الملكية الإقطاعية إلى الجمهورية العسكريّة العاصفة بالخلافات السياسية والحزبيّة، وبالإضافة إلى ذلك، فإن السياب كان أيضاً من أوائل المنشغلين بـ"المجتمع البائس" الذي يعيش فيه، وكتب وحاول الكتابة عنه بشكل مستمر بطريقة فيها من التعرية والتأمل الكثير، بالرغم من نظرته "القروية" إلى الوقائع في بعض الأحيان.
في مقدّمته لديوان "أساطير"، والتي وصفها بـالـ"خواطر"، ينتبه السياب إلى تلك الوصفة الاجتماعيّة التي تعطيه زخم الاستمرار بالكتابة والالتزام بها "أنا من المؤمنين بأن على الفنان ديناً يجب أن يؤديه لهذا المجتمع البائس الذي يعيش فيه"، وليست هذه كليشيه جاهزة يقدّمها الشاعر هنا، وإنما ستكون جليّة وواضحة في قصائده، فـ"المومس العمياء" يجزم الصحفي قاسم السماوي أنها موجودة ودلّه عليها السياب في بغداد، واستعار حكايتها ليحوّلها إلى تلك القصيدة الغارقة في العدم والأجواء المرعبة والبائسة والمتعثّرة.
وبهذا يكون الشاعر، الذي ظلّت تلاحقه أطياف مدينته الأولى "جيكور"، أحد الاستعاريين الكبار في الشعرية العربية، انتقى أقنعة مختلفة في الكتابة، فهو لم يلجأ الى الميثيولوجيا والتاريخ ليعيش فيهما أو يحاسبهما، وانما وظفهما في الزمن الحاضر المليء بالأحداث السريعة. وكان أفضل ما فعله هو استعارة المهمشين للسخرية من الأقدار. فلطالما اعتقدت أن "حفار القبور" هي أكبر سخرية من الحياة السياسية والحرب والعدم بعد أن استعارت قناع حفار القبور ليتكلم بلسانه بذلك الصدق الرهيب.
لم يركض السياب، كما فعل مجايليه، إلى استعارة الشخصيات التاريخية، ليتحدّث بلسانهم ويدين التاريخ ليبرأهم منه، أو يبرأه منهم، وانما استعار أولئك المنسيين والمعدمين ليلتبس ذواتهم ويستحضر التاريخ كله إليهم وليكوِّن بانوراما كاملة عن الخراب.
(3)
"كتب نصيف الناصري، الشاعر العراقي، قبل أعوام: "قتلنا السياب عام 1980 ولم نعد نرغب الآن في كتابة قصيدة حسب طريقته الجليلة"، إلا أن الناصري نفسه لم يتخلّص من السياب أبداً، ظلّ طيفه يلاحقه، تحوّل إلى نسخة شبيهة منه في الحياة، حياته وهو يبحث عن "انخيدوانا" الضائعة في المنافي، وشتائمه التي يوزّعها على الجميع من دون مناسبة، وهوسه بالشِّعر الذي تحوّل عنده إلى واجب يومي يمارسه للخلاص من عدميّة الحياة.. هكذا استعار حياة السياب كاملة.
لكن هل هذا ما حصل فعلاً؟
السياب هو نسخة العراقي المنفي في كل زمان ومكان، لديه ذلك الشعور العميق بالغربة، والذي يتمسك بوهم الشِّعر على أنه الخلاص، وأنه الأمل الوحيد في الإبقاء على النفس الصاعد والنازل في الصدر. كان يكفي للسياب أن يُعلِّم هذا للشعراء الذين أعقبوه. كان هذا الدرّس الثاني من السياب الذي منحه للجميع: الشعور الدائم في المنفى، من جيكور إلى بغداد ولندن والكويت، ظلّ يبحث عن الموطأ المطمأن إلا أنه لم يجده، وفاقم ذلك النفي المستمر من قبل الأحزاب والحكومات المتعاقبة على العراق تجاه الشاعر والمثقّف، وستكرر قصّة السياب بذاك الإحساس مع الكثير من الشعراء الذين أعقبوه.
(4)
يمكن القول أن ذاتين شعريتين ظلتا تتنازعان السياب، الأولى تلك "الصناعية" المرتبطة بتحدّي الذات، وكتابة الشّعر العميق الذي فيه غموض واشتغال واستعارات تؤدي إلى عمق التاريخ والمجتمع، وهي التي كتب من خلالها قصائده المطولة المليئة بالفلسفة والخيال الجامح الغزير؛ أما الذات الثانية فهي تلك الصادقة التي عبر فيها عن مآسيه الشخصية التي لم تنفك تتعاظم، من مراحل الجوع والعُزلة الوظيفية، إلا آلام المرض والخشية من خيانة الزوجة وعدم عنايتها بالأطفال، والأزمات العاطفيّة المتلاحقة.
كانتا هاتين الذاتين في صراع مرير دائم منذ بدايات السياب الشعرية، وهما لهما تبريرهما، فالسياب شخصية مركبة بطبيعة الحال، وقد عانى الكثير في حياته، وحاول وفقاً لهذا، أن يعوض كل ذلك بالشعر وحده، فهو رأسماله الوحيد في الحياة وكان خلاصه ومثواه كلما اشتدت ضوائقه النفسية والمرضية.
(5)
كان اعتقاد السياب، في ذروة صعود الحداثة العربيّة، بأن الشِّعر الحر في العراق متفوّق على قرينه العربي، ليس اعتباطياً، فحتّى هذه اللحظة لا يوجد في الشّعر العربي نواحاً وحزناً مثل ذلك الموجود في العراق، ذلك الشِّعر الحار، المليء بالمآسي والعدم والإدانة، والمشغول بحياكة المشاهد الفظيعة والتآلف مع الموت، وإذا ما وجدت الحداثة إن هذا الأمر مثلبة، إلا أن هذه المثلبة هي التي ضمنت للسياب أن يُعاد قراءته على مدى أكثر من 50 عاماً وكأنه يُقرأ لأوّل مرّة، وضمنت له في بواكيره أن يكسر العمود الشعري، ويشرّع الأبواب أمام الشّعر الحر، الذي لم يتخلّص أكثر الشعراء موهبة الذي جاؤوا بعده من أطيافه.
(6)
حياة السياب هي سيرة مركّبة ومكثّفة، وكأنها حيوات متعدّدة لأشخاص عدّة، حياة عاشها السياب دفعة واحدة بوقت قصير، بألمها وأحزانها وسعاداتها الصغيرة، هي حكايات الحبّ المشرّعة على البطلان، تلك المتخيلة والفاشلة والواهمة، العشيقات اللواتي لم يفارقهن شعره يوماً، تقلّبه السياسي من اليمين إلى اليسار، حبّ المكان الأول وكأنّه العالم، الخشية والرعب من المدن، ارتباطه بالأصدقاء، ونفاقه عليهم، وليس أخيراً تمسّكه بالشعر كحبل نجاة أخير من كل هذه الخيبات.
توفّي السياب بعد أن جرّب كل شيء، إلا الحب، توفّي وهو في سنٍّ صغيرة حتّى تشابهت سيرته بسير أولئك الأساطير الذين نُقلت لنا حياتهم عبر الكتب المترجمة. هكذا ولجنا السياب كأسطورة قادمة من البصرة، تعبث بحياتنا، ونسيِّر مصائرنا عساها تتشابه بمصيره الذي –رغم حزنه- نحسده عليه.